ثمة فرق شاسع بين الانشقاق وبين الهروب. ويبقى استخدام مفردة بدل الأخرى، مجرد خيار سياسي يخصّ المحطات الإعلامية وأقطاب المعارضة السورية في الداخل وفي الخارج، كما يخصّ النظام السوري والإعلام المتحدث باسمه. المحطات الإعلامية المعارضة للنظام السوري، قالت إن العميد المحيّد منذ أكثر من سنة، قائد الفرقة 105 في الحرس الجمهوري، مناف طلاس، انشقّ عن النظام وتسلل إلى تركيا ومنها إلى فرنسا. بعض أقطاب المعارضة، قالت إن العميد طلاس هرب من سورية في اللحظة الحاسمة، إما ليحمي نفسه وقد باتت حياته مهددة بالخطر، وإما ليحمي سمعته وقد بات سقوط النظام أمراً وشيكاً. وبعض أفراد الجيش الحرّ وجه لوماً مباشراً لطلاس كونه ترك أرض الوطن، وذهب إلى باريس ليكمل حياة الترف التي عاشها منذ طفولته وحتى لحظة مغادرته البلاد. أما النظام السوري فقد تجاهل الموضوع تماماً وكأن مناف طلاس ليس سوى جرحاً عميقاً، يتجاهلونه للتخفف من الألم.
ومهما تجاهلنا أهمية الفعل الذي قام به طلاس، لا يمكننا إغفال الطعنة التي سببها انسحابه للبنية العسكرية والعائلية والتسلطية للنظام السوري. مناف طلاس لم يكن مجرد ضابط صاحب سلطات رفيعة في النظام. كان أيضاً صديقاً عائلياً للرئيس السوري بشار الأسد. ويعرف في الأوساط القريبة من عائلة الأسد، أن صداقتهما كانت تقفز في أحيان كثيرة على الأعراف والتقاليد التي تحكم علاقة الضباط أو المسؤولين بالرئيس الشاب. كانا يلعبان التنس مثلاً بانتظام. وكانت تجمعهما علاقة حميمة فيها من الأسرار ما يكفي لزعزعة هالة القدسية المرسومة بعناية حول شخص الرئيس الشاب.
من جهة أخرى، لعب مناف طلاس دوراً أساسياً في الحياة الثقافية والسياسية في سورية بعد استئصال ما سمّي بـ "ربيع دمشق" حيث شهدت البلاد بعد تسلّم الرئيس الشاب مقاليد الحكم، بضعة أشهر استثنائية من حرية التعبير سمح خلالها بإحياء المنتديات والصالونات الفكرية، ما لبثت أن انتهت بإغلاق تلك المنتديات وبحملة اعتقالات واسعة طالت فئة مهمة ومرموقة من المفكرين والمثقفين. الدور الذي لعبه آنذاك مناف طلاس مع زوجته تالا خير يتلخص بـ "أنسنة" العلاقة بين المثقف والسلطة. حيث استطاعا بلباقتهما وحسن ضيافتها وسعة صدرهما وتقبلهما للرأي الآخر، بإقامة علاقات إنسانية وعائلية مع الكثير من المثقفين والكتّاب والفنانين والمفكرين. وتلك العلاقات التي أسسا لها في بيتهما وفي المطاعم وفي بيوت تلك النخبة المثقفة، أنسنت العلاقة بين المثقف والسلطة. لا بل إنها دجّنت بعض المثقفين وردعتهم عن إبداء آرائهم وإعلان مواقفهم، مراعاة لمناف الذي تربطه علاقة قوية بالرئيس الشاب. من جهة أخرى، ساهمت تلك العلاقة بتبييض صورة الأسد الإبن، عبر صديقه المقرّب. وكان مناف "يمون" على أصدقائه المثقفين ويحضرهم من بيوتهم ليجلسوا في الصفوف الأولى في أحد المسارح الدمشقية عندما يقرر الرئيس وزوجته حضور عرض ما. كما كان يصطحبهم إلى تدمر أو حلب أو حتى إلى بيته في دمشق أو بيته في بلودان لقضاء أمسية مع الرئيس وزوجته. في المقابل، كان يساعد أولئك المثقفون في أمورهم اليومية، مثل أن يتوسط لإلغاء منع السفر عن أحدهم أو لتوظيف آخر أو لإنتاج مسلسل تلفزيوني لثالث، إلخ...
ليس لانشقاق أو هرب العميد مناف طلاس أي أهمية شخصية. إذ أنه لم يبقَ في سورية، ولم يخض الحرب إلى جانب الشعب والثوار، بل التحق بإخته ناهد العجّة طلاس في باريس هو وعائلته مفضلاً الابتعاد لأسباب نجهلها لكن لا يصعب تخمينها. إلا أن خروجه يشكل صفعة للنظام السوري. أولاً بسبب تخلي أقرب الناس عنه في اللحظة الحاسمة التي يواجهها. ثانياً، لأن الفعل بحدّ ذاته، يعني أن النظام فقد سلطته وشرعيته وقدرته على الإلمام بأدق التفاصيل. ثالثاً، لأن خروج طلاس يشجع باقي المسؤولين المتورطين على الخروج والالتحاق بصفوف المنشقين، على الأقل، لحفظ ما تبقى من ماء الوجه. رابعاً، لأن العميد طلاس ينتمي إلى الطائفة السنيّة ما سيؤدي إلى تفاقم الإحساس بالطائفية لدى بعض المسؤولين العلويين الحاليين أو المتقاعدين وبالتالي استشراسهم لكن في الوقت ذاته سيؤدي إلى انطوائهم (طائفياً)، أو تشجيعهم على الانسحاب خوفاً من الآتي القريب.